فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبالجملة كل ما قيل أو يقال لا يصغى إليه إن صح التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن يبقى حينئذ أنه يلزم التعارض بين ظواهر الروايات، ومن هنا قال بعضهم: المراد بالمقام المحمود ما ينتظم كل مقام يتضمن كرامة له صلى الله عليه وسلم، والاقتصار في بعض الروايات على بعض لنكتة نحو ما مر، ووصفه بكونه محمودًا إما باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم يحمد الله تعالى عليه أبلغ الحمد أو باعتبار أن كل من يشاهده يحمده ولم يشترط أن يكون الحمد في مقابلة النعمة ويدخل في هذا كل مقام له صلى الله عليه وسلم محمود في الجنة.
وكذا يدخل فيه ما جوز مفتى الصوفية سيدي شهاب الدين السهروردي أن يكون المقام المحمود وهو إعطاؤه عليه الصلاة والسلام مرتبة من العلم لم تعط لغيره من الخلق أصلًا فإنه ذكر في رسالة له في العقائد أن علم عوام المؤمنين يكون يوم القيامة كعلم علمائهم في الدنيا ويكون علم العلماء إذ ذاك كعلم الأنبياء عليهم ويكون علم الأنبياء كعلم نبينا صلى الله عليه وسلم ويعطي نبينا عليه الصلاة والسلام من العلم ما لم يعط أحد من العالمين ولعله المقام المحمود ولم أر ذلك لغيره عليه الرحمة والله تعالى أعلم.
ثم هذا الاختلاف في المقام المحمود هنا لم يقع فيه في دعاء الأذان بل ادعى العلامة ابن حجر الهيتمي أنه فيه مقام الشفاعة العظمة لفصل القضاء اتفاقًا فتأمل في هذا المقام والله تعالى ولي الأنعام والأفهام.
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي إدخالًا مرضيًا جيدًا لا يرى فيه ما يكره، والإضافة للمبالغة أي إدخالًا مرضيًا جيدًا لا يرى فيه ما يكره، والإضافة للمبالغة.
{وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} نظير الأول واختلف في تعيين المراد من ذلك فأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم أن المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة ويدل عليه على ما قيل قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} [الإسراء: 76] إلخ.
وأيد بما أخرجه أحمد، والطبراني، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وجماعة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله تعالى عليه {وَقُل رَّبّ} الآية، وبدأ بالإدخال لأنه الأهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه الإدخال في القبر والإخراج منه وأيد بذكره بعد البعث، وقيل إدخال مكة ظاهرًا عليها بالفتح وإخراجه صلى الله عليه وسلم منها آمنًا من المشركين، وقيل إخراجه من المدينة وإدخال مكة بالفتح وإخراجه صلى الله عليه وسلم منها آمنا من المشركين، وقيل إخراجه من المدينة وإدخال مكة بالفتح، وقال محمد بن المنكدر: إدخاله الغار وإخراجه منه، وقيل الإدخال في الجنة والإخراج من مكة، وقيل الإدخال في الصلاة والإخراج منها، وقيل الإدخال في المأمورات والإخراج عن المنهيات وقيل الإدخال فيما حمله صلى الله عليه وسلم من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤديًا لما كلفه من غير تفريط، وقيل الإدخال في بحار التويحد والتنزيه والإخراج من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في الآثار إلى الاستغراق في معرفة الواحد القهار.
وقيل وقيل والأظهر أن المراد ادخاله عليه الصلاة والسلام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه فيكون عامًا في جميع الموارد والمصادر واستظهر ذلك أبو حيان وفي الكشف أنه الوجه الموافق لظاهر اللفظ والمطابق لمقتضى النظم فسابقه ولاحقه لا يختصان بمكان دون آخر، وكفاك قوله تعالى: {واجعل لّى} إلخ شاهد صدق على إيثاره.
وقرأ قتادة، وأبو حيوة، وحميد، وإبراهيم بن أبي عبلة: {مُدْخَلَ وَمُخْرِجُ} بفتح الميم فيهما قال صاحب اللوامح: وهما مصدران من دخل وخرج لكنهما جاءا من معنى أدخلني وأخرجني السابقين دون لفظهما ومثل ذلك {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما على الظرفية، وقال غيره من المحققين: هما مصدران منصوبان على تقدير فعلين ثلاثيين إذ مصدر المزيدين مضموم الميم كما في القراءة المتوارتة أي أدخلني فادخل مدخل صدق وأخرجني فاخرج مخرج صدق.
{وَاجْعَلْ لي منْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصيرًا} أي حجة تنصرني على من خالفني وهو مراد مجاهد بقوله حجة بينة، وفي رواية أخرى عنه أنه كتاب يحوي الحدود والأحكام وعن الحسن أنه أريد التسلط على الكافرين بالسيف وعلى المنافقين بإقامة الحدود، وقريب ما قيل أن المراد قهرًا وعزًا تنصر به الإسلام على غيره.
وزعم بعضهم أنه فتح مكة، وقيل السلطان أحد السلاطين الملوك فكأن المراد الدعاء بأن يكون في كل عصر ملك ينصر دين الله تعالى، قيل وهو ظاهر ما أخرجه البيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عن قتادة قال: أخرجه الله تعالى من مكة مخرج صدق وأدخلة المدينة مدخل صدق وعلم نبي الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله تعالى وحدوده وفرائضه فإن السلطان عزة من الله عز وجل جعلها بين أظهر عباده لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم وفيه نظر، وفعيل على سائر الأوجه مبالغة في فاعل.
وجوز أن يكون في بعضها بمعنى مقعول، والحق أن المراد من السلطان كل ما يفيده الغلبة على أعداء الله تعالى وظهور دينه جل شأنه ووصفه بنصيرا للمبالغة.
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} الإسلام والدين الثابت الراسخ.
والجملة عطف على جملة {قُلْ} أولا واحتمال أنها من مقول القول الأول لما فيها من الدلالة على الاستجابة في غاية البعد.
{وَزَهَقَ الباطل} أي زال واضمحل ولم يثبت الشرك والكفر وتسويلات الشيطان من زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف.
وعن قتادة أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وعن ابن جريج أن الأول الجهاد والثاني الشرك وعن مقاتل الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الشيطان وهذا قريب مما ذكرنا.
{إِنَّ الباطل} كائنًا ما كان {كَانَ زَهُوقًا} مضمحلًا غير ثابت الآن أو فيما بعد أو مطلقًا لكونه كان لم يكن، وصيغة فعول للمبالغة.
أخرج الشيخان وجماعة عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} {جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد} [سبأ: 49]، وفي رواية الطبراني في الصغير.
والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم جاء ومعه قضيب فجعل يهوى به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول: {جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} حتى مر عليها كلها. اهـ.

.قال القاسمي:

{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}
لما ذكر تعالى، قبلُ، كيد المشركين وكيدودتهم استفزازه من الأرض، أمره بأن يستعين بإقامة الصلوات والإقبال على عبادته تعالى، والابتهال إليه على دفع كيدهم ومكرهم، وتأييده عليهم. ونظيره قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97- 98]، وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]، وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45]، هذا من حيث نظم الآية مع ما قبلها. وأما معناها، فقوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: لزوالها. قال ابن تيمية: الدلوك: الزوال عند أكثر السلف، وهو الصواب. واللام للتأقيت. أي: بيان الوقت بمعنى بعد وتكون بمعنى عند أيضًا. وقيل: للتعليل؛ لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة. وأما: {غَسَقِ اللَّيْلِ} فهو اجتماع الليل وظلمته. وأما: {قُرْآنَ الْفَجْرِ} فهو صلاة الصبح. سميت قرآنًا لأنه ركنها. كما سميت ركوعًا وسجودًا. فهو من تسمية الكل باسم جزئه المهم. فيدل على وجوب القراءة فيها صريحًا، وفي غيرها بدلالة النص والقياس. ومعنى: {مَشْهُودًا} يشهده ملائكة الليل والنهار. ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. أو يشهده الكثير من المصلين في العادة! ومن حقه أن يكون مشهودًا بالجماعة الكثيرة. والأكثرون على أن قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} منصوب بالعطف على {الصلاة} أي: وأقم صلاة الفجر. وجوَّز بعض النحاة نصبه على الإغراء. أي: وعليك قرآن الفجر، أو الزم.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها، فدلوك الشمس يتناول الظهر والعصر تناولًا واحدًا. وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء تناولًا واحدًا. وقرآن الفجر هي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر. قيل: هذا يقتضي أن يكون الدلوك مشتركًا بين الظهر والعصر. والغسق مشتركًا بين المغرب والعشاء. فيدل على جواز الجمع مطلقًا بين الأولين، وكذا بين الأخيرين. فالجواب: هو كذلك بعذر السفر أو المطر ونحوها. وأما في غيرها فلا، وذلك لما بينته السنة من فعل كل واحدة في الوقت الخاص بها، إلا بعذر. قال الحافظ ابن كثير: قد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترًا من أفعاله وأقواله، تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم، مما تلقوه خلفًا عن سلف، وقرنًا بعد قرن، كما هو مقرر في مواضعه.

.قال أبو السعود:

ليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار، بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام. كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه السلام. ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلوات من غير فصل بينها؛ لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة. فبعضها متصل ببعض، بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدهما عن الآخر. ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات. انتهى.
والظاهر أن مستند من جوَّز الجمع في الحضر مطلقًا هذه الآية مع أثر ابن عباس.
جاء في رحمة الأمة ما مثاله: وعن ابن سيرين أنه يجوز الجمع من غير خوف ولا مرض لحاجة، ما لم يتخذه عادة. واختار ابن المنذر وجماعة جواز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض. انتهى.
وقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعًا وثمانيًا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
ومن رواية لمسلم: صلى الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، من غير خوف ولا سفر. وكثير من الرواة حملوا ذلك على ليلة مطيرة. والمسألة شهيرة.
الثاني: قلنا إن هذه الآية إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس، ومنها قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]، فالطرف الأول صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر في النهار. فإن الصائم يصوم النهار. وهو يصوم من طلوع الفجر. والوتر تصلى بالليل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة». وإذا قيل: نصف النهار؛ فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس. فهذا في هذا الموضوع، ولفظ {النهار} يراد به من طلوع الفجر، ويراد به من طلوع الشمس. لكن قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} أريد به من طلوع الفجر بلا ريب، لأن ما بعد طلوع الشمس ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة، بل ولا مستحبة. بل الصلاة في أول الطلوع منهي عنها حتى ترتفع الشمس. وهل تستحب الصلاة لوقت الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه. فعلم أنه أراد بالطرف الأول: من طلوع الفجر. وأما الطرف الثاني: فمن الزوال إلى الغروب. فجعل الصلاة في هذا الوقت صلاة في الطرف الثاني وأشرك بينهما فيه. ثم قال: {وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} فأجمل المغرب والعشاء في زلف من الليل وهو ساعات من الليل. فالمواقيت هنا ثلاثة.
وقال تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء. فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة. وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت. وقد دل على المواقيت في آيات أخر كقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17- 18]، فتبين أن له التسبيح والحمد في السماوات والأرض حين المساء وحين الصباح وعشيًا وحين الإظهار. فالمساء يتناول المغرب والعشاء، والصباح يتناول الفجر، والعشي يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر.
وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]، وفي الآية الأخرى: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39- 40]، فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر. وقبل غروبها هي العصر، وبذلك فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا». ثم قرأ قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ}: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} مطلق في آناء الليل، يتناول المغرب والعشاء. أفاد ذلك تقي الدين ابن تيمية في فتواه في المواقيت الكبرى.
الثالث: هذه الآية من الآيات التي أمر تعالى فيها بإقامة الصلاة لوقتها. قال ابن تيمية عليه الرحمة، في فتواه المتقدمة: وقت الصلاة وقتان. وقت الرفاهية والاختيار. ووقت الحاجة والعذر. فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله. ووقت العصر ما لم تصفر الشمس. ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق. ووقت العشاء إلى نصف الليل. ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس». وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن. ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت حديث من قوله إلا هذا. وسائر ما روي فعل منه، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث. ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث. والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر وآخره، وآخر وقت المغرب، وآخر وقت العشاء، وآخر وقت الفجر، فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقت الظهر عندهم من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور، وعند أبي حنيفة إنما يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه، ونقل عنه، أن ما بين المثل إلى المثلين ليس وقتًا لا للظهر ولا للعصر. وعلى قول الجمهور، فهل آخر هذا أول هذا، أو بينهما قدر أربع ركعات مشترك؟ فيه نزاع. فالجمهور على الأول، والثاني منقول عن مالك. وإذا صار ظل كل شيء مثليه، خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد. وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلاف في مذهبهما. والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس. وهو الرواية الثانية عن أحمد، كما نطق به حديث عبد الله بن عَمْرو، مما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، بعد عمله بمكة. وهذا قول أبي يوسف ومحمد. فلم يكن للعصر وقت متفق عليه. ولكن الصواب المقطوع به، الذي تواترت به السنن واتفق عليه الجماهير؛ أن وقتها يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله. وليس مع القول الآخر نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لا صحيح ولا ضعيف. ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة؛ لما اعتادوا تأخير الصلاة، واشتهر ذلك، صار يظن من يظن أنه السنة. وقد احتج له بالمثل المضروب المسلمين وأهل الكتاب. ولا حجة فيه لاتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطول من وقت العصر. الذي أوله إذا صار ظل كل شيء مثليه.